بحث قانوني ودراسة حول القاضي وحدود سلطته في التفسير
حدود سلطة القاضي في التفسير
دة أمينة رضوان دكتورة في الحقوق قاضية بالمحكمة المدنية بالدارالبيضاء
إن تدخل القضاء لتفسير العقود أو القواعد القانونية لا يتم اللجوء إليه في جميع الحالات، إذ وظيفته الأساسية تتمثل في تطبيق القواعد القانونية على النوازل والوقائع المعروضة عليه ليس إلا وتفسير القاضي للقواعد المذكورة يلزمه بمعرفة المعرف به حتى لا يخلط بينه وبين المفاهيم المشابهة له.
ولقد عملت التشريعات الحديثة باختلاف مشاربها على تقنيين قوانينها في مدونات خاصة بها، ولم يخرج التشريع المغربي عن هذا الاتجاه، حينما عمل على تعديل القوانين القديمة وإحداث قوانين جديدة خاصة بكل فرع من فروع القانون. وفي كثير من الحالات يجد القاضي نفسه أمام نصوص قانونية غير واضحة وغامضة، ولا يظهر ذلك إلا عند التطبيق، حيث يجد القاضي نفسه أمام إحدى الحاليتين:
أولا: وجود فراغ تشريعي يحكم النازلة المعروضة عليه.
ثانيا: وجود نص قانوني متعلق بالواقعة التي سيبت فيها ولكن تتعارض والطبيعة الخاصة لهذا القانون أو أن النص يصعب تطبيقه لوجود غموض أو تناقض فيه.
وما قيل عن النصوص القانونية يصدق عن العقود غير الواضحة عن المعنى الذي قصده عاقديها منها، وهنا لا يستطيع القاضي غير الجنائي رفع يده عن القضية لأنه سيقع تحت طائلة إنكار العدالة بدليل الفقرة الأولى من الفصل الثاني من قانون المسطرة المدنية الذي ينص على أنه: “لا يحق للقاضي الامتناع عن الحكم أو إصدار قرار.
ويجب البت بحكم في كل قضية رفعت إلى المحكمة…” ويعاقب على ذلك بصريح الفصل 240 من مجموعة القانون الجنائي الذي ورد فيه أن: “كل قاض أو موظف عمومي له اختصاصات قضائية وامتنع عن الفصل بين الخصوم لأي سبب كان، ولو تعلل بسكوت القانون أو غموضه وصمم على الامتناع، بعد الطلب القانوني الذي قدم إليه ورغم الأمر الصادر إليه من رؤسائه،بغرامة من مائتين وخمسين إلى ألفين وخمسمائة درهم على الأكثر، وبالحرمان من تولي الوظائف العمومية من سنة إلى عشر سنوات”.
وأمام هذا الوضع لم يبق أمام القاضي إلا اللجوء إلى قواعد التفسير لعلها تسعفه في إيجاد الحل الأصلح والمناسب للنزاع المعروض عليه. وقبل لجوء القاضي إلى التفسير يحب عليه أولا أن يلم بموضوع التفسير من حيث التمكن من حصر مداه ونطاقه (مبحث أول) ومن هنا يتأتى له معرفة حدوده في تفسير قاعدة قانونية ما أو عقد معين (مبحث ثاني).
المبحث الأول: ماهية التفسير لتفسير القاضي مقتضى قانوني سواء تعلق الأمر بقاعدة قانونية أو عقد معين يجب عليه بداية أن يكون ملما بموضوع التفسير من حيث حصر مفهومه وتحديد أنواعه.
وعليه نتناول هذا المبحث في مطلبين، نعالج في المطلب الأول مفهوم التفسير، ونتعرض في المطلب الثاني إلى أنواع التفسير. المطلب الأول: مفهوم التفسير يقصد بالتفسير لغة: كشف المغلق من المراد بلفظه المحتسب عن الفهم به وكشف المراد عن اللفظ المشكل وبصفة عامة هو البيان والكشف والإيضاح وقد ورد لفظة “التفسير” في القرآن الكريم في موضوع واحد وهو قوله تعالى: (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق و أحسن تفسيرا) .
وقال ابن عباس في معنى الآية: أي تفصيلا. أما في الاصطلاح الفقهي فهو: تحديد المضمون الحقيقي للقاعدة القانونية بالكشف عن مختلف التطبيقات التي تنسحب عليها أحكامها، وإيضاح ما غمض من هذه الأحكام واستكمال النقص فيها، ورفع ما قد يبدو في الظاهر من التناقض بين أجزائها، أو يلوح منه التعارض بينها وبين غيرها من القواعد القانونية وهو يشمل العقد كذلك من أجل الوقوف على الإدارة الحقيقية والمشتركة للطرفيين المتعاقدين مستندا في ذلك إلى صلب العقد، والعناصر الخارجة عنه والمرتبطة به .
فالتفسير إذن هو الوسيلة التي يستخدمها المفسر بقصد الفصل في الخصومات التي تعرض عليه، والتي يكون ملزما بالفصل فيها من غير أن يجد لها حلا في التشريع، أو إن هو وجده كان غامضا أو متعارضا مع غيره غير أن المفسر وهو يقوم بعملية التفسير بهدف الوصول إلى النية الحقيقية للمشرع أو للأطراف المتعاقدة يجب عليه عدم الاقتصار على العبارات والألفاظ المستعملة في العقد أو النص فقط بل استنتاج ذلك من خلال العناصر الداخلية المكونة للنص القانوني أو العقد محل النظر، انسجاما مع الفقرة الأخيرة من الفصل 462 من قانون الالتزامات والعقود التي تنص على الآتي: “.. وعندما يكون للتأويل موجب، يلزم البحث عن قصد المتعاقدين، دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ ولا عند تركيب الجمل”.
وفي هذا يقول جانب من الفقه: “إذا كان هناك محل لتفسير العقيد، فيجب البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ، مع الاستهداء في ذلك بطبيعة التعامل، وبما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين وفقا للعرف الجاري في المعاملات .
ونرى أن التفسير هو: “الكشف عن الإرادة الحقيقية للمشرع أو الأطراف المتعاقدة، بتحديد المقصود منها وقت وضع النص أو إبرام العقد، مستندا في ذلك على عوامل ذاتية وأخرى موضوعية”.
المطلب ومن هنا يجب التمييز بين تفسير العقد وتفسير النص القانوني كالآتي:
ففي تفسير العقد نبحث عن الإرادة الحقيقية للأطراف المتعاقدة، بينما في تفسير النص القانوني نبحث عن الإرادة العامة للمشرع.
في تفسير العقد يكون المتعاقدين غير معنيين بأية قاعدة خارجة عن العقد، ما لم تكن مخالفة لنص قانوني حيث يحتكمون إلى قواعد من صنعهم. إذا كانت جهات تفسير العقد غير محددة، فإن جهات تفسير النص القانوني محددة في المشرع والفقه والقضاء.
المطلب الثاني: أنواع التفسير
تتعدد أنواع التفسير ما بين تفسير تشريعي، فقهي، إداري وقضائي، ونشرح كل واحد من هذه الأنواع على حدة: – التفسير التشريعي: هو الذي تصدره السلطة المختصة بالتفسير، لتوضيح معنى تشريعي سابق أو لتحديد مجاله أو لرفع تعارض ظاهري بين نصوصه، بحيث يجب أن يتبع في إصداره نفس الإجراءات التي تم بها وضع التشريع الأصلي، وهو يكون ملزما للجميع، لأن المشرع لا يضيف جديدا إلى النص المفسر وإنما يبين المراد من النص المفسر.
والأصل أن يصدر التفسير التشريعي عن السلطة التشريعية، إلا أنه استثناء قد يصدر عن السلطة التنفيذية بموجب تفويض خاص من السلطة التشريعية. ومن الأمثلة على هذا النوع من التفسير الفصل 13 من القرار الوزيري الصادر بتاريخ 19/09/1951 والمتعلق بوضعية موظفي الدولة الشاغلين للمسكن الوظيفي، حيث صدر قرار الوزير الأول بتاريخ 05/04/1977 الذي نص على ضرورة إخلاء السكن الوضعي في حالة الانقطاع عن العمل لأي سبب من الأسباب في الأجل المحدد قانونيا.
– التفسير الفقهي: هو التفسير الذي يقوم به الفقهاء في مؤلفاتهم التي تتطرق إلى تفسير النصوص القانونية، وفي أبحاثهم، وفي انتقاداتهم التي يواجهون بها الحالات التي لم يوفق فيها القضاء إلى الحل المناسب أو التي لم يوجد لها حل سليم، وهو غير ملزم للقضاء.
– التفسير الإداري: هو الذي يصدر عن السلطة التنفيذية والإدارات التابعة لها، ويرمي إلى توحيد وتنسيق في تفسير القانون داخل إدارات الدولة والمؤسسات العمومية التابعة لها، وهو لا يلزم إلا الموظفين التابعيين إداريا للجهة التي أصدرته، وهو غير ملزم للقضاء لأنه لا يرقى إلى درجة القانون .
النوع الأخير الذي يعهد به إلى القضاة عند البت في النوازل المعروضة عليهم، بسبب وجود فراغ تشريعي أو بسبب وجود غموض في القاعدة القانونية أو العقد أو لوجود صعوبة في تطبيق هذه القاعدة رغم وضوح النص، وهم بعملهم هذا يساهمون في تطوير القاعدة القانونية، وذلك من خلال جعلها تواكب التطورات المستجدة. والجدير بالذكر أن التفسير القضائي يعد مرتبطا وجوبا بوجود نزاع، لأنه لا يمكن أن يطلب من القاضي تفسير مقتضى ما دون أن يطرح أمامه النزاع المتعلق به.
وخلافا للتشريع الأنجلسكسوني الذي يعتبر فيه القضاء مصدرا من مصادر القانون حيث إن تفسير القاضي لقاعدة قانونية أو لعقد معين يعد ملزما لجميع القضاة من درجته أو في درجة أدنى منه، فإن التشريع المغربي شأنه في ذلك شأن التشريع اللاتيني لا يعتبر التفسير القضائي ملزما لباقي القضاة، بل إن القاضي الذي تولى تفسير مقتضى قانوني معين يكون في حل عنه إذا ما عرض عليه نزاع مشابه له ومستقلا عنه. إلا في مسألة واحدة ووحيدة جاءت بها الفقرة الثانية من المادة 369 من قانون المسطرة المدنية، وهي حينما يبت المجلس الأعلى في قراره في نقطة قانونية معينة، فإنه يتعين على المحكمة التي أحيل عليها الملف أن تتقيد بقرار المجلس المذكور بخصوص هذه النقطة، ولنفترض أن هذه النقطة تتعلق بتفسير نص قانوني ما، فإن تلك المحكمة مجبرة على إتباع تفسير المجلس المحيل في ذلك التفسير، وإن كان الأمر يقتصر على تلك الواقعة فقط.
المبحث الثاني: القواعد التي تحكم التفسير عملت التشريعات المقارنة على الحد من سلطة القاضي في التفسير سواء تعلق الأمر بتفسير القانون أو بتفسير العقود، وذلك عن طريق تنظيمها لقواعد محددة لا يجوز له وهو بصدد التفسير تجاوزها (مطلب أول) وهو في ذلك خاضع لرقابة المحكمة الأعلى درجة (مطلب ثاني).
المطلب الأول: قواعد التفسير بخلاف التشريعات المقارنة التي عملت على تنظيم قواعد تفسير القانون (فقرة أولى) والعقود (فقرة ثانية) لم ينظم التشريع المغربي إلا هذه الأخيرة.
الفقرة الأولى: قواعد تفسير النصوص القانونية
إن القواعد القانونية الواضحة المعنى لا تحتاج إلى تفسير ولا يجوز تأويلها إلى مدلول غير مدلولها الواضح، بخلاف نصوص بعض القواعد القانونية غير الواضحة المعنى عن الدلالة منها، والتي يستحيل تطبيقها على النوازل المعروضة عليها، الشيء الذي يتطلب تفسيرا لها لتحديد المعنى الذي توخاه الشارع منها وفق قواعد يجب على المفسر اتباعها.
فما هي قواعد تفسير النصوص القانونية؟ يعتمد في تفسير النصوص القانونية على قواعد متنوعة ومتعددة يمكن التمييز فيها بين القواعد الداخلية والقواعد الخارجية.
أولا: القواعد الداخلية بشأن تفسير النصوص القانونية:
هي القواعد التي يستخلصها المفسر داخل النص القانوني
ونذكر على سبيل المثال:
التفسير اللفظي: وهو اعتماد المفسر المعاني اللغوية والاصطلاحية لألفاظ النص القانوني بغية الوقوف والكشف عن قصد المشرع .
الاستنتاج بطريق القياس: وذلك بتطبيق حكم ورد بشأن حالة معينة على حالة مشابهة لم يرد في حكمها نص لوجود الشبه الأكيد بين الحالتين. فقياسا على الحديث النبوي القاضي بعدم توريث الوارث الذي قتل مورثه لا يستحق الموصى له الوصية إذا قتل الموصي.
الاستنتاج بمفهوم المخالفة: وهو عكس الاستنتاج بطريق القياس، ويكون بتطبيق واقعه غير منصوص عليها في القانون عكس الحكم الذي أعطى بواقعة منصوص عليها فيه لوجود اختلاف في العلة أو لانتقاء شرط من شروطه المعتبرة في الحكم. ومثاله أن هلاك المبيع قبل تسليمه يؤدي إلى فسخ العقد واسترداد الثمن من قبل المشتري، حيث يمكن أن نستنتج بمفهوم المخالفة أنه إذا هلك المبيع بعد تسليمه لا يفسخ العقد و لا يسترد المشتري الثمن.
الاستنتاج من باب أولى: وهو تطبيق حكم وارد في حالة معينة على حالة أخرى لم يرد في حكمها نص، لا لأن علة الحكم الوارد في الحالة الأولى أو سببه متوافران في الحالة الثانية فحسب، ولكن لأنهما أكثر توافرا في هذه الحالة منها في الحالة الأولى، ومثاله قوله تعالى: (لا تقل لهما أف ولا تنهرهما)، فيكون من باب أولى عدم ضربهما .
ثانيا: القواعد الخارجية المتعلقة بتفسير النصوص القانونية: وهي تلك التي يستعين بها المفسر من خارج النص القانوني للوصول إلى حل لمسألة قانونية، ويمكن إجمالها في:
حكمة المشرع: وهي الغاية التي يقصدها المشرع من وضع النص القانوني، فالمقصود من الليل كظرف مشدد في السرقة هو الظلام الفلكي الذي يسكن فيه الناس ويسترخون لا الظلام الفعلي.
الأعمال التحضيرية: وهي المذكرات التفسيرية، ومناقشات المجالس التشريعية وأعمال اللجان التي تقترن عادة بالتشريعات عند تحضيرها وإن كانت هذه الأعمال المذكورة قد لا تفيد المفسر كليا للوصول إلى الإرادة الحقيقية للمشرع، لهذا فإن الرجوع إليها يكون على سبيل الاستئناس.
المصادر التاريخية: وذلك في حالة غموض النص الوطني، فإن المفسر يرجع إلى الأصل التاريخي الذي أخذ منه النص الوطني. ومثال ذلك قانوننا المدني المغربي الذي أخذ عن القانون المدني الفرنسي .
الدستور: لا يمكن اعتبار الدستور كمرجع للتفسير في حالة غموض النص، ولكن بما أن النص القانوني يستمد شرعيته من مبدأ عام نص عليه الدستور، فيمكن الرجوع إليه عن طريق فهم مضمون هذا المبدأ للوصول إلى إرادة المشرع من وضع النص القانوني.
المبادئ العامة للقانون: نشير بادئ ذي بدء أنه لا يمكن حصر المبادئ العامة للقانون في إطار حدود معينة لكونها قابلة للتطور بتطور الزمن، ويمكن تعريفها بأنها مجموعة من المبادئ التي تستخدم في توجيه النظام القانوني، من حيث تطبيقه وتنميته، ولو لم يكن لها دقة القواعد القانونية الوضعية وانضباطها.
ويتنوع مضمون المبادئ العامة بحسب طبيعة المجال القانوني الذي تعمل فيه، إلا أنه يمكن إرجاعها من حيث أساسها وجوهرها إلى مبدأين أساسيين هما:
مبدأ الحرية ومبدأ المساواة، ويتفرع عن كل مبدأ مبادئ شتى ، وعليه يمكن للمفسر استنتاج إرادة المشرع من النص الغامض باعتماده على المبادئ العامة للقانون.
الفقرة الثانية: قواعد تفسير العقود
باعتبار أن مواد مدونة الشغل لم تتطرق لموضوع قواعد التفسير، فكان من البديهي اقتباس هذه القواعد من المادة المدنية وجعلها صالحة للتطبيق على المادة الشغلية ما دامت هذه الأخيرة منبثقة عن الأولى، بل ولقد ظلت إلى زمن قريب تعتبر ضمن موضوعاتها. ولقد نظم المشرع المغربي قواعد التفسير في الفصول من 461 إلى 473 من قانون الالتزامات والعقود، وعند قراءة هذه الأخيرة نجدها لا تخلو من حالتين: فإما وضوح العبارة (أولا) وإما غموضها (ثانيا) حيث إن لكل حالة محدداتها التي يجب على القاضي عدم تجاوزها.
أولا: حالة العبارة الواضحة اعتبرت التشريعات المقارنة ومن ضمنها التشريع المغربي الذي نص في الفصل 461 من قانون الالتزامات والعقود على ما يلي: “إذا كانت ألفاظ العقد صريحة، امتنع البحث عن قصد صاحبها” وإن المقصود بوضوح العبارة ليس وضوح معناها الحرفي وإنما مدى مطابقتها لقصد الأطراف المتعاقدة منها.
ويمكن تعريفها بأنها هي التي يحسن الأطراف اختيارها واستعمالها بإتقان في موضعها للدلالة عن المعنى المقصود من وضعها، فلا يحتمل التشابه ولا التأويل وقد كرس هذا المقتضى القانوني القضاء المغربي في عدد من قراراته نذكر منها: – قرار محكمة النقض المغربية (المجلس الأعلى سابقا) : “حيث تبين صحة ما نعته الوسيلتان، ذلك أنه يتضح من تعليل القرار المطعون فيه أن المحكمة المصدرة له قد استنتجت جدية النزاع المؤدية إلى المساس بأصل الحق من تأويل الرسالة المؤرخة في 25 أكتوبر 1980 المتضمنة للالتزام بإفراغ المحل المكرى في متم دجنبر 1981، ومما دفع المطلوب من تجديد عقد الكراء بسومة جديدة لتاريخ لاحق لتاريخ الرسالة المتضمنة للالتزام، في حين أنه يتجلى بالرجوع إلى الرسالة المشار إليها والتي جاءت ألفاظها واضحة فيما تدل عليه من التزام المطلوب في النقض بمحض إرادتها ورضاها بإفراغ المحل المكترى من طرفها في متم دجنبر 1981، أنها لا تقبل أي تأويل مما يمنع معه عن قضاة الموضوع البحث عن القصد منها، وأن مجرد الدفع بتجديد عقد الكراء دون الإدلاء بما يفيد هذا التجديد، لا تنشأ عنه جدية النزاع طالما أن الالتزام المطالب بتنفيذه مكتوب بالرسالة المؤرخة في 25 أبريل 1980، مما ينتج عنه أن التعديلات الواردة في القرار المطعون فيه التي أبرزت جدية النزاع بما ذكر، غير مرتكزة على أساس قانوني صحيح استثناء من مقتضيات الفصول 230 و231 و461 المشار إليها، مما يكون معه القرار غير مرتكز على أساس صحيح ومعرض للنقض”، وهو ما معمول به في القضاء المصري .
وهذا المقتضى واضح في معناه على أنه لا محل للتفسير القضائي ما دامت ألفاظ العقد صريحة، وهذه الألفاظ المستعملة يلزم فهمها حسب معناها الحقيقي ومدلولها المعتاد.
وهذا يقودنا إلى القول أن القاضي وإن كانت العبارة واضحة، فإنه لا يأخذ بها إلا إذا كانت مطابقة للإرادة الباطنة التي تدل على معناها الحقيقي. وفي هذا ورد مدلول الفصل 466 من قانون الالتزامات والعقود الذي جاء فيه أنه: “يلزم فهم الألفاظ المستعملة حسب معناها الحقيقي ومدلولها المعتاد في مكان إبرام العقد، إلا إذا ثبت أنه قصد استعمالها في معنى خاص، وإن كان للفظ معنى اصطلاحي افترض أنه استعمل فيه”، وهذا يدل على أنه بالرغم من كون ألفاظ العقد واضحة فإنها تكون قابلة للتفسير عندما تسيء الأطراف المتعاقدة التعبير عن إرادتها حيث لا تدل العبارات المستعملة رغم وضوحها عن قصدهم، بل قد تدل على معنى آخر غير المعنى الذي قصدوه.
ففي هذه الحالة يتصدى القاضي لها بإعمال قواعد التفسير عن طريق الخروج عن المعنى الظاهر للعبارة أو اللفظ إلى ما يوافق الإرادة المشتركة والحقيقية للطرفين أو الأطراف المتعاقدة، مستنتجا ذلك من ظروف وملابسات العقد، ومسترشدا بطبيعة التعامل وبما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين التعاقدين وفقا للعرف الجاري في المعاملات، ومستعينا بعوامل داخلية وخارجية بوجه عام . ولجوء القاضي إلى تفسير العبارة أو العبارات الواضحة في العقد محدد بشرطين:
الشرط الأول: لا يلجأ القاضي إلى تفسير العقد الواضح إلا إذا ثبت له بوضوح من ظروف الدعوى ما يفيد ذلك.
الشرط الثاني: يجب أن يبين القاضي في تعليله أسباب تفسير العقد الواضح . وإذا كان تفسير القاضي للعبارة الواضحة لا يلجأ إليه في حالة عدم تعبيرها عن المعنى الحقيقي الذي قصده منها أطرافها، فإننا نرى أنه يصعب عليه الأخذ بالإدارة الظاهرة أو الإدارة الباطنة للوصول إلى المعنى الحقيقي، وإنما الأخذ بالإرادة التي يستطيع التعرف عليها.
ثانيا: تفسير العبارة الغامضة اللفظ الغامض هو اللفظ غير الواضح الدلالة، وسبب الغموض من أوجه أربعة: التشابه والإجمال والإشكال والخفاء . وقد قيد التشريع المغربي شأنه باقي التشريعات المقارنة القاضي أثناء تفسيره للعقود الغامضة بمجموعة من القواعد أوردها في الفصل 462 وما يليه من قانون الالتزامات والعقود، نوردها إتباعا:
القاعدة الأولى: التفسير بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني. وردت هذه القاعدة في الفقرة الأخيرة من الفصل 462 من قانون الالتزامات والعقود التي جاء فيها: “… وعندما يكون للتأويل موجب يلزم البحث عن قصد المتعاقدين، دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ ولا عند تركيب الجمل” مسترشدا في ذلك بطبيعة التعامل وبما ينبغي أن تتوفر من أمانة وثقة بين المتعاقدين وفقا للعرف الجاري في المعاملات .
فالقاضي يبحث عن القصد الحقيقي والمشترك للأطراف المتعاقدة، يتجاوز المعنى الحرفي للألفاظ مهتديا في ذلك بمجموعة من العوامل الخارجة عن العقد كطبيعة التعامل والاحتكام إلى العرف المعمول به في المعاملات. وهذا ما سارت عليها محكمة النقض المغربية عندما اعتبرت: “أن العقد الذي ينص في آن واحد على أنه أبرم لمدة اثنين وعشرين شهرا بينما أن احتساب هذه المدة من بدايتها إلى نهايتها التي وقع التنصيص عليها صراحة في العقد تفيد بصورة قطعية أنه أبرم لمدة ستة وثلاثين شهرا هو عقد غامض لا يمكن التوفيق بين بنوده إلا عن طريق التأويل، وأن المحكمة بما لها من سلطة قررت أن العقد باعتبار بداية مدته ونهايتها هو عقد أبرم لمدة ستة وثلاثين شهرا، وأن ما ورد فيه من أنه أبرم لمدة 22 شهرا هو خطأ مادي وقع في احتساب هذه المدة، ورتبت على ذلك أن الإنذار الذي توصل به المكتري وجه إليه أثناء سريان مدة العقد وأن المكري لم يحترم شرط المدة الذي هو شرط ملزم للطرفين معا لا يمكن أن يوضع حد للعقد إلا عن طريق دعوى الفسخ وهو الأمر الذي لم يسلكه الطاعن الذي أقام هذه الدعوى على أساس أن العقد قد انتهت مدته”.
وفي نفس الصدد قضت محكمة النقض المغربية ب: “تعيب الطالبة على القرار المطعون فيه نقصان التعليل الموازي لانعدامه، وسوء تطبيق الفصل 8 من عقد الشغل، وخرق مقتضيات الفصول: 461 – 462 – 474 – 230 من قانون الالتزامات والعقود، ذلك أن العارضة في أوجه دفاعها ابتدائيا واستئنافيا، تمسكت بمقتضيات البند 6 من عقد العمل الذي يربط الطرفين، والذي يمنع بصفة صريحة على المطلوب في النقض عند مغادرته العمل لدى العارضة العمل لدى مقاولة منافسة.
ورغم أن المطلوب في النقض أخل بشرط عدم المنافسة باشتغاله لدى شركة منافسة، خلافا لما ورد بالعقد، فإن المحكمة الابتدائية قضت له بتعويض عن الضرر قدره: 100.000,00 درهم وردت دفع العارضة، واعتبرت أن الخلاف الوارد بالبند 8 قد أصبح متجاوزا، لكون الالتزام المبرم بين الطرفين بمقتضى العقد قد أصبح غير ذي موضوع، وأن بتسليم العارضة للأجير رسالة التوصية في 8/9/2003، فإنها تكون قد حررته من كل التزام صادر عنها سواء كان تعاقديا أو ناتجا عن تسيير المقاولة.
وأن محكمة الاستئناف أسوة بالمحكمة الابتدائية قضت بتأييد الحكم الابتدائي استنادا كذلك إلى رسالة التوصية المؤرخة في 8/9/2003 والتي جاء فيها: “إن السيد عبد القادر (ن) قد غادر شركة (…) وهو حر من كل التزام سواء كان تعاقديا أو ناتجا عن تسيير المقاولة”،كما اعتبرت أن رسالة التوصية قد أمحت جميع الالتزامات التعاقدية المبرمة بين الطرفين، وأن قيام العارضة بتوجيه إشعار إلى مشغلته أدى إلى حرمانه من العمل بسبب التزام حرر منه.
مع أن رسالة التوصية لم يرد في مقتضيات بنودها بصيغة صريحة أن الاتفاقات التي تضمنها عقد الشغل ولا سيما ما تم الاتفاق عليه في البند الثامن أنه قد ألغي بمقتضاها. فالتعليل الذي استندت إليه محكمة الاستئناف لا يرتكز على أساس قانوني سليم، لكونها أولت رسالة التوصية تأويلا خاطئا وأعطت الوثيقة أكثر من مدلولها، وطبقت البند 8 من عقد الشغل تطبيقا خاطئا فالفصل 461 من ق.ل.ع ينص على ما يلي: “إذا كانت ألفاظ العقد صريحة امتنع البحث عن قصد صاحبها”، كما نص الفصل 462 من نفس القانون على ما يلي: “يكون التأويل في الحالات التالية: إذا كان الغموض ناشئا عن مقارنة بنود العقد المختلفة بحيث تشير المقارنة الشك حول مدلول تلك البنود، وعندما يكون للتأويل موجب يلزم البحث عن قصد المتعاقدين دون الوقوف عند المعني الحرفي للألفاظ ولا عند تركيب الجمل”، فالفقرة الرابعة من رسالة التوصية تفيد فعلا بأن الالتزامات المترتبة عن العقد بتاريخ تحرير رسالة التوصية قد تم احترامها، وبالتالي فإنه لا يمكن لشركة (…) أن تطالبه بأية مطالب كيفما كانت ما دام احترام بنود العقد قائما، إذ أن عبارة: «Libre de toute engagement qu’il soit contrat actuel ou découlent de la gestion de l’entreprise» تخص الالتزامات قبل انتهاء العقد، وليست تلك المفروضة على الأطراف بعد إنهاء العقد. وغير خاف أن إلغاء الاتفاقات يسلك بخصوصها المسطرة التي أنشأتها والحجة على ذلك مقتضيات الفصل 474 من قانون الالتزامات والعقود.
وأنه لا يوجد في رسالة التوصية ما يفيد تنازل العارضة بصفة صريحة عن البند 8 من عقد العمل…. مما يكون معه القرار المطعون فيه خارقا للفصول المشار إليها، ومشوبا بنقصان التعليل، ويتعين نقضه. لكن، حيث إن الطالبة إنما تجادل في تقدير الدليل والذي يدخل في صميم سلطة قضاة الموضوع، فمحكمة الاستئناف عندما نصت على ما يلي: “حيث إنه يتضح من خلال رسالة توجيه مؤرخة في 8/9/1993 سلمتها المشغلة للأجير يشهد فيها رئيس الشركة المشغلة السيد حسن (ب) بأن الأجير عبد القادر (ن) قد غادر شركة (…)، و هو حر من كل التزام سواء كان تعاقديا أو ناتجا عن تسيير المقاولة.
وحيث إن عبارة: “حر من كل التزام تعاقدي” تفيد تحلل الأجير من مقتضيات الفصل الثامن من عقد العمل التي تلزمه هذه المشغلة بعدم العمل بمقاولة منافسة خلال مدة سنة من تاريخ فسخ العلاقة الشغلية مع المستأنفة شركة (…). وبالتالي فإن إبرام المستأنف عليه لعلاقة شغل مع شركة (…) لم يكن إخلالا بالالتزام الوارد بالفصل الثامن من عقد العمل السابق مع المستأنفة، ما دامت هذه الأخيرة قد حررت المستأنف عليه من هذا الالتزام بموجب رسالة توجيه جاءت لاحقة لتاريخ عقد العمل بينهما…”. يكون قرارها المطعون فيه معللا بما فيه الكفاية في تبرير ما انتهى إليه، وغير خارق للمقتضيات القانونية المثارة، وتبقى الوسيلة بفرعيها على غير أساس” .
وقد اختلف الفقه بخصوص أي الإرادتين تصلح أن تعبر عن الإرادة الحقيقية والمشتركة للأطراف المتعاقدة، حتى إن جانبا من الفقه ذهب إلى اعتبار كلا الإرادتين صحيحة في البحث عن النية أو القصد المشترك لأصحابها بتوفيق القاضي ما استطاع بين الإرادتين، دون أن يغلب أحدهما لمصلحة الأخرى. إلا أننا نؤيد الرأي الفقهي الذي يقول: أن العبرة بالإرادة الظاهرة التي من المفروض أن تعبر عن الإرادة الباطنية لأفرادها، حتى إذا قام الدليل على عكس ذلك وجب استخلاصها من خلال الإرادة الظاهرة كذلك استنادا إلى الظروف المحيطة بالعقد.
القاعدة الثانية: إعمال الكلام أولى من إهماله تطبيق هذه القاعدة يجد سنده في الفصل 465 من قانون الالتزامات والعقود الذي ينص على أنه: “إذا أمكن حمل عبارة بند معنيين، كان حمله على المعنى الذي يعطيه بعض الأثر أولى من حمله على المعنى الذي يجرده من كل أثر”.
ومعنى ذلك أنه إذا تضمن نص قانوني عبارة لها معنيين فإنه من الأولى إعمال العبارة التي تمنحه بعض الأثر على العبارة التي تجرده من كل أثر، وفي هذا قضت محكمة النقض المغربية : “…حيث يعيب الطاعن على القرار خرق القانون لكونه أدلى بعقد البيع الذي يتضمن أن المطلوب باع له 3750 مترا مربعا من العقار المحفظ بالرسم العقاري … وأن هذه المساحة تمثل ربع مساحة العقار، فمن حقه أن يطالب بتنفيذ التزام البائع وبتسجيل البيع على الرسم العقاري وأنه لا يوجد في القانون ما يمنع مثل هذا البيع، وأن المحكمة لما رفضت دعواه تكون قد خرقت القانون”.
القاعدة الثالثة: الأصل في الكلام الحقيقي وهذه القاعدة وردت في الفصل 466 من قانون الالتزامات والعقود الذي ينص على أنه: “يلزم فهم الألفاظ المستعملة حسب معناها الحقيقي ومدلولها المعتاد في مكان إبرام العقد، إلا إذا ثبت أنه قصد استعمالها في معنى خاص.
و إذا كان للفظ معنى اصطلاحي، افترض أنه استعمل فيه”. ومفاد ذلك أنه يجب على القاضي تفسير الألفاظ المستعملة في العقد حسب معناها الحقيقي والمعتاد في مكان إبرام العقد، إذ الأصل هو ذلك. وعند التعارض بين الحقيقة والمجاز يصير الأصل إلى الحقيقة ترجيحا وتغليبا. وعليه لو أن اللفظ كان له عدة معان باختلاف الأمكنة، فإن حمله على معنى المكان الذي أبرم فيه أولى من حمله على معنى آخر، وحمل اللفظ على معناه الاصطلاحي أولى من حمله على غيره، وقس على ذلك .
وهذا ما كرسته محكمة النقض معتبرة: “أن الغموض الناشئ عن المقارنة بين بنود العقد المتعلقة بتحديد الشيء المبيع لا يؤدي إلى تجريد العقد من كل أثر فإعمال العقد خير من إهماله (الفصل 465) وهذا الإعمال للعقد يقتضي من المحكمة أن تقوم بتأويله وتبحث عن قصد المتعاقد دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ ولا عند تركيب الجمل (الفصل 462) وأن المحكمة لما جردت العقد من كل أثر والحال أنه يمكن التوفيق بين هذه البنود عن طريق التأويل تكون قد خرقت المقتضيات المذكورة وعرضت قرارها للنقض”.
القاعدة الرابعة: إذا اتسع الأمر ضاق نص الفصل 467 من قانون الالتزامات والعقود على أن: “التنازل عن الحق، يجب أن يكون له مفهوم ضيق، ولا يكون له إلا المدى الذي يظهر بوضوح من الألفاظ المستعملة ممن أجراه، ولا يسوغ التوسع فيه عن طريق التأويل، والعقود التي يثور الشك حول مدلولها لا تصلح أساسا لاستنتاج التنازل منها”، ومعنى النص أنه يجب على القاضي ألا يتوسع في التنازل بل يأخذ بالمفهوم الضيق وهذا ما جسده الفصل 468 من نفس القانون الذي نص على أنه: “إذا كانت لشخص واحد من أجل سبب واحد دعويان فإن اختياره إحداهما لا يمكن أن يحمل على تنازله عن الأخرى”، وهو ما طبقته محكمة النقض المغربية في قرار لها عندما اعتبرت أن: “التحفظ الذي سجله مصرف على هامش تقييد اعتماد مستندي بالفرنكات الفرنسية في حساب دائن، من حيث بقاء الفرنكين الفرنسي والمغربي متعادلين في القيمة لا يمكن اعتباره متضمنا بتنازل صاحب الاعتماد على قبض دينه بالفرنكات الفرنسية إذا لم تكن قيمة الفرنك متعادلة وقيمة الدرهم المغربي، لأن التحفظ المذكور يثير الشك حول مدلوله ولا يمكن اعتباره مقبولا من طرف الاعتماد لأن التنازل عن الحق يجب أن يكون له مفهوم ضيق”.
القاعدة الخامسة: ذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر كله وهو مقتضى الفصل 469 من قانون الالتزامات والعقود الذي جاء فيه: “عندما تذكر في العقد حالة لتطبيق الالتزام، فينبغي أن لا يفهم من ذلك أنه قد قصد تحديد مجاله بها دون غيرها من بقية الحالات التي لم تذكر”، ومعنى ذلك أنه إذا تضمن عقد معين التزاما معين فهذا لا يفهم منه أن الأمر يقتصر على هذا الالتزام دون توابعه إلا إذا عبر عن ذلك بصريح العبارة. فالأصل في ذلك يرجع إلى أن ما لا يبعض يؤخذ ككل، والإقرار البسيط أو الموصوف لا يجزأ . فبيع شركة مثلا لا يقتصر عليها فقط بل يشمل كذلك الآلات وغيرها.
القاعدة السادسة: العادة والعرف محكمان وهذا ما يجد سنده في الفصل 470 من قانون الالتزامات والعقود الذي ورد فيه: “إذا ذكر، في الالتزام، المبلغ أو الوزن أو المقدار على وجه التقريب بعبارتي “ما يقارب وتقريبا” وغيرهما من العبارات المماثلة وجب الأخذ بالتسامح الذي تقضي به عادات التجارة أو عرف المكان”، وفي ذلك تغليب للعادة أو العرف على القانون، إذا تضمن الالتزام المبلغ أو الوزن أو المقدار على وجه التقريب. وتجدر الإشارة إلى أن تقديم الأعراف والعادات على القانون يجد تطبيقا واسعا له في الميدان التجاري. ولما كان الأمر كذلك فإنه إذا كتب المبلغ أو المقدار بالحروف أو الأرقام، وجب عند الاختلاف الاعتداد بالمبلغ المكتوب بالحروف ما لم يثبت بوضوح الجانب الذي اعتراه الغلط .
القاعدة السابعة: الأصل في الشك عدم الفعل يفسر الشك لفائدة المدين ، فلو حصل شك في نطاق الالتزام وجب العمل بقليله، ولو وقع شك في بند من بنود العقد أو التزام فيه وجب تركه، وعند الشك في المقدار يعمل بقليله وهكذا، لأن الأصل هو براءة الذمة والاستثناء هو الالتزام. وهذا ما حدا بالمشرع المغربي في الفصل 472 إلى النص على أنه: “إذا كتب المبلغ أو المقدار بالحروف عدة مرات، وجب الاعتداد بالمبلغ أو المقدار الأقل ما لم يثبت بوضوح الجانب الذي اعتراه الغلط” .
المطلب الثاني: رقابة المحكمة الأعلى درجة على تفسير العقود والقانون
إن القاضي وهو يقوم بعملية التفسير لا يكون حرا في ذلك، بل قيده المشرع بمجموعة من الضوابط تعتبر بمثابة قواعد لتفسير القانون والعقد، يجب عليه الاهتداء بها باعتباره خاضعا لرقابة المحكمة الأعلى درجة.
لكن قبل التطرق للرقابة التي تمارسها هذه المحكمة على قضاة الموضوع فيما يتعلق بتفسيرهم للعقود والقانون، يجب بداية توضيح المسائل التي تعتبر من مسائل الواقع وتلك التي تعتبر من مسائل القانون في مجال التفسير بصفة عامة. حتى يتأتى لنا إبراز الرقابة التي تمارسها المحكمة الأعلى درجة على قضاة الموضوع باعتبارها محكمة قانون وليست محكمة واقع.
وعليه يمكن مبدئيا حصر مسائل القانون في القواعد التي أوردها المشرع المغربي في الفصول من 461 إلى 473 من قانون الالتزامات والعقود، وأما ما يعتبر من مسائل الواقع ولا يخضع لرقابة المحكمة الأعلى درجة فهي السلطة التقديرية الممنوحة للقاضي في الكشف عن إرادة المتعاقدين واستخلاصها من الوقائع الثابتة وتقديره للمعايير الموضوعية التي يستعين بها في الكشف عنها، وهي حسن النية والعرف والعدالة والأمانة والثقة المتبادلة بين العاقدين.
وقضاة الموضوع ملزمون بإلباس الواقعة ثوبها القانوني وتحديد القواعد القانونية التي تحكمها، وهم في ذلك خاضعون لرقابة المحكمة الأعلى درجة، ورقابة هذه الأخيرة على محاكم الموضوع نميز فيه بين الرقابة على تفسير القانون (الفقرة الأولى) والرقابة على تفسير العقود (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: موقف المحكمة الأعلى درجة من تفسير القانون
لقد سبق أن قلنا أن المشرع المغربي لم يتعرض لقواعد تفسير القانون في قانون الالتزامات والعقود، وقد تدخل الفقه بتعداد بعض الحالات التي يمكن أن يلجأ فيها القاضي إلى تفسير النصوص القانونية واضعا بذلك قواعد يجب عليه الاحتكام إليها أثناء عملية التفسير، مميزا فيها بين قواعد داخلية وأخرى خارجية.
والنص القانوني الواضح الدلالة على مراد المشرع منه شأنه شأن العقد الواضح الدلالة على مقصود عاقديه منه لا يحتاج إلى تفسيره، وفي هذا الصدد ورد قرار محكمة النقض المصرية : “متى كان النص واضحا جلي المعنى قاطع الدلالة على المراد منه فلا يجوز الخروج عليه أو تأويله بدعوى تفسيره، استهداء بالحكمة التي أملته وقصد الشارع منه، لأن ذلك لا يكون إلا عند غموض أو وجود لبس فيه”، أما إذا كان هناك موجب لتفسير قانون ما أو نص قانوني معين فيجب التحرز في تفسيره والتزام الدقة في ذلك وعدم تحميل عباراتها فوق ما تحتمل وينبغي فهم الهدف من النصوص القانونية الغير الواضحة بالأخذ بمجموع ما ورد بها بهدف التعرف على قصد الشارع منها دون إفراد أجزاء منها بمفهوم مستقل .
الفقرة الثانية: موقف المحكمة الأعلى درجة من تفسير العقد
أولا: تفسير العقد الواضح أطر الفصل 461 من قانون الالتزامات والعقود قاعدة مفادها أن العقد الواضح لا يفسر بل ينفذ، وهذا ما كرسته محكمة النقض المغربية في عدد من قراراتها نذكر منها القرار التالي: “…بتطبيق الفصل 461 من قانون الالتزامات والعقود فإنه ليس من حق القضاة أن يفسروا اتفاق الأطراف عندما تكون عبارات العقد واضحة ومتفقة مع الهدف الأكبر من العقد، وأن مقارنة شروطه لا تثير أي شك في معناه …”، فمتى كانت ألفاظ العقد معبرة عن الإرادة الحقيقية للمتعاقدين امتنع على القاضي تفسير العقد أو تعديله إلا باتفاق الطرفين أو للأسباب المقررة قانونا تطبيقا لقاعدة العقد شريعة المتعاقدين المنصوص عليها في الفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود، وتفسير القاضي للعقد رغم تطابق ألفاظه مع ما اتجهت إليه إرادة عاقديه يعد تحريفا، حيث اعتبرت محكمة النقض المغربية أنه: “إذا كان بإمكان قاضي الموضوع تفسير العقود التي حررها الأطراف، فإنه لا يستطيع تحت ستار التفسير تحريف بنودها الواضحة”، وهو ما اعتمدته محكمة النقض المصرية كذلك في قرار لها جاء فيه أن: “مخالفة الثابت بالأوراق التي تبطل الحكم هي تحريف محكمة الموضوع الثابت ماديا ببعض المسندات” وهناك حالة متميزة يكون فيها التعبير عن الإرادة واضحا في دلالته إلا أنه يكون مخالفا للمقصود الحقيقي من التعبير عن الإرادة، حيث لا غموض في المعنى الذي يؤخذ منه غير أن المخالفة تتجه إما إلى المقصود من التعبير الصادر من أحد المتعاقدين وإما مخالفة القصد المشترك للمتعاقدين معا.
في هذه الحالة أجمعت معظم التشريعات المقارنة ومنها التشريع المغربي على ضرورة البحث عن “النية المشتركة للمتعاقدين” دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ. وتقدير قاضي الموضوع لضرورة تفسير عقد من عدمه هي من المسائل القانونية التي تخضع لرقابة المحكمة الأعلى درجة، بخلاف التفسير في ذاته الذي يعتبر مسألة من مسائل الواقع. حيث ورد قرار لمحكمة النقض المصرية جاء فيه: “حاجة التعبير إلى تفسير أو عدم حاجته إلى ذلك من المسائل القانونية التي تخضع فيها المحاكم لرقابة محكمة النقض.
أما التفسير نفسه فمسألة تدخل في سلطة محكمة الموضوع وهي تستهدي في هذا التفسير فيما يبدو منها أنها أحاطت بعبارة العقد”، وبهذا يبقى لمحكمة الموضوع السلطة التامة في تفسير صيغ العقود والمشارطات المختلف عليها، بما تراه أوفى بمقصود العاقدين ولا يجوز لها أن تعقد بما تفيده عبارة معينة دون غيرها من عبارات المحرر، بل يجب عليها أن تأخذ بما تفيده العبارات مكتملة ، إلا أن قضاة الموضوع وإن كانوا لا رقابة عليهم من طرف محكمة النقض في تفسير العقد الواضح إذا كانت ألفاظه لا تتوافق والقصد الحقيقي والمشترك لعاقديه بإعمال قواعد التفسير المتاحة، فإنهم يخضعون لمراقبة المحكمة المذكورة من حيث التعليل، وفي هذا ورد قرار محكمة النقض المصرية الآتي: “إن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أنه وإن كان لمحكمة الموضوع سلطة تفسير العقود والشروط للتعرف على مقصود المتعاقدين إلا أن ذلك مشروط بأن لا تخرج في تفسيرها عما تحتمله عبارات تلك العقود أو تجاوز المعنى الظاهر لها، وأنه على القاضي إذا ما أراد حمل عبارة المتعاقدين على معنى مغاير لظاهرها، أن يبين في حكمه الأسباب المقبولة التي تبرر العدول عن هذا، ورجح أنه مقصود المتعاقدين بحيث يتضح لمحكمة النقض من هذا البيان ما اعتمدته محكمة الموضوع….”.
وتجدر الإشارة إلى أن القضاء وإن استقر – في أغلب الدول – على اعتبار العقود النموذجية هي من العقود الواضحة التي لا تحتاج إلى تفسير، فإنه منح لقاضي الموضوع سلطة في تفسيرها لصالح الطرف المذعن عند عدم تعبير ألفاظها عن قصد المتعاقدين منها، وسلطة قاضي الموضوع في تفسير هذا النوع من العقود لا يخضع فيه لرقابة محكمة مادام لم يخرج في تفسيره عن المعنى الذي تحتمله عباراتها .
ثانيا – تفسير العقد الغامض
تعتبر سلطة القاضي في تفسير العقود الغامضة سلطة واسعة باعتماده على القواعد التي حددها المشرع في الفصول من 461 إلى 473 من قانون الالتزامات والعقود وبالاهتداء كذلك بمجموعة من العوامل الداخلية والخارجية، ولا رقابة عليه من طرف محكمة النقض، وهذا ما قررته محكمة النقض المغربية في قرارها المؤرخ في 12 ابريل 1961 الذي جاء فيه: “إن تقدير الشروط الغامضة أو المتعارضة لاتفاقات الأطراف لا يخضع لرقابة المجلس الأعلى” .
وهو موقف استحسنه الفقه حيث ذهب أستاذنا محمد الكشبور إلى القول: “أن تفسير العقد الغامض مسألة موضوعية لا تخضع لرقابة محكمة النقض، ويبدو أن السبب في ذلك هو أن التفسير في هذه الحالة يقتضي تقصي النية الحقيقية أو المفترضة للأطراف والوقوف على ظروف التعاقد وظروف التعامل وما تقضي به قواعد حسن النية وعادات التجار فيما بينهم، وقد يستدعي الأمر الاستعانة بإجراءات التحقيق، كالمعاينة والخبرة. فالمسألة إذن مسألة واقع لأن قاضي الموضوع يبحث في عالم النية والضمير ليقتنع في النهاية بأن إرادة الأطراف قد اتجهت إلى تحقيق غرض معين”.
ونخلص من كل ما سبق أن القضاء المغربي شأنه شأن القضاء في معظم الدول استقر على عدم تفسير العقد الواضح تطبيقا للفصلين 230 و461 من قانون الالتزامات والعقود إلا إذا كانت ألفاظه لا تعبر عن المعنى الحقيقي للمتعاقدين حيث خول لقضاة الموضوع سلطة تفسيره ولا رقابة عليهم إلا من حيث التعليل، بخلاف ما إذا كانت ألفاظ العقد غامضة حيث منحهم سلطة تقديرية واسعة في تفسيره اعتمادا على القواعد المحددة في قانون الالتزامات والعقود وبالاستناد إلى مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية عن العقد، ولا رقابة عليهم من طرفه لأن السلطة التقديرية الممنوحة لهم هي من المسائل الواقعية.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
مقال حول: بحث قانوني ودراسة حول القاضي وحدود سلطته في التفسير